قصصقصص تاريخيةقصص للأطفالقصص واقعيةمفالاتمقالاتمنوعات
صاحبة المفتاح الضائع
صاحبة المفتاح الضائع
أمام تلك اللوحة التي تعبر عن خبايا القلب وقفت تلك اللوحة التي تخيم سحائب الحزن عليها ويغطي معظمها سواد قاتم وقفت أتأمل وأعيد شريط ذكرياتي إلى الوراء. ظننت للحظة أنني نسيت ولكن هيهات حينما يكون الشخص عزيزا على النفس فلن نستطيع نسيانه عندما تكون أكبر نعمة هي الذكرى. عندها سنداوي ألم الفراق بابتسامة خفيفة نستشف منها صور الذكريات. سقطت دمعة من عيني عند تذكري لأيام مضت من عمري قضيتها معها .. لكن رحلت وتركتني .. إنها صاحبة المفتاح الضائع هكذا أستطيع أن أسميها، أو هذا هو لقبها المفضل، كثيرا ما كانت تنسى مفتاحها أينما ذهبت وكل اللوحات التي كانت ترسمها مذيلة بتوقيع في أسفل اللوحة صاحبة المفتاح الضائع.
تبدأ القصة منذ انتقالها إلى مدرستنا وقد مضى من الدراسة ما يقارب الشهر .. كانت تكبرني بثلاث سنوات مكثت تلك السنوات الثلاث في المستشفى لأسباب صحية مر أسبوع على حضورها وبدأت مع الأيام تزداد شعبيتها بين الطالبات بل وكل من يتعرف عليها .. في الحقيقة كانت مرحة وابتسامتها العذبة لا تفارق شفتيها وكانت كالطفلة البريئة الجميلة وعندما تقع عينيك عليها تحس بأنك لم تري أجمل منها وبدأ يصل إلى مسامعي حديث الطالبات والمدرسات عنها في المدرسة. وبل وفوق ذلك عُلق الكثير من لوحاتها في أرجاء المدرسة .. وسط تلك الأحداث كنت أراقب عن كثب.
في البداية لم يشغلني هذا الأمر ولكن مع الأيام.بدأ الفضول يتسلل إلى قلبي من تكون هذه الفتاة لتجذب أنظار الجميع وماذا عن صاحبة المفتاح الضائع وهل هي فعلا شخصية غير عادية كما يزعم الجميع كل تلك الأحداث كانت تشوقني إلى معرفة تلك الفتاة، وبدأ القدر يلعب لعبته.
ذات مرة .. كنت أتمشى في أرجاء المدرسة فاستوقفتني إحدى لوحاتها المعلقة ولكن تلك اللوحة ليس من المبالغ أن أقول بأنني لم أر أجمل منها فاللوحة لم تكن تحمل معنى الرسم فحسب. بل كانت لحسنها تكلم الناظر إليها لقد أمعنت النظر فيها. ماذا تحاول أن تقول صاحبة اللوحة. وتلك الألوان الزاهية التي تعكس النفس المشرقة والروح الشفافة. مذيلة بتوقيعها المعتاد، بدأت أقتنع أنها فعلاً متميزة.
جذبتني تلك اللوحة كثيرا بل وكانت السبب في بداية علاقتي بها كنت كثيرا ما أراها جالسة وبيدها تلك اللوحة والفرشاة وما كان يثير الانتباه هو تحريكها للفرشاة بخفة ومهارة كما يغلب على لوحاتها طابع الإشراق والتفاؤل، وبدأت أملّ من مجرد المراقبة ولمّا هممت أولى خطواتي في التعرف عليها .. حدث ما لم يكن في الحسبان.الخبر الذي ضجت المدرسة من أجله الكل متأثر قلق. صاحبة المفتاح الضائع في المستشفى كان يدهشني هذا الحب الكبير لها لماذا وهل هي تستحق ذهب الجميع لزيارتها، فلم أتسلل تسلل المتطفلين بل اكتفيت بأن أرسلت إليها باقة ورد مع رسالة كتبت لها فيها: الصداقة قطار يركب فيه كل من له قلب خالص ونية صادقة، وأي إنسان يبحث عن صديق خال من العيوب فسيظل بدون صديق فهلا قبلت صداقتي.
لم أجد ردا على رسالتي حتى بعد خروجها من المستشفى هل ذلك تجاهل أم ماذا لم أكن أدري .. أدخل عدم اهتمامها برسالتي الحزن إلى قلبي .. فلم أدع لليأس طريقاً إلى قلبي فأرسلت إليها رسالتي الثانية ذكرت لها هذه الكلمات: إذا اتبعت الناس فلن تتقدمي عليهم وإذا مشيت بمفردك وسطهم فقد تصلي إلى ما لا يصل إليه غيرك ولك الإختيار في الحياة أما أن تذوبي بين الآخرين أو تكوني شخصا متميزاً فكوني شخصاً مختلفاً، ولكي تكوني شخصا مختلفا عليك أن تحققي شيئا لا يستطيع غيرك تحقيقه وأظنك هكذا.
وفي اليوم التالي وجدت الرد على رسالتي ولكن بحق هو رد مختلف من شخص مختلف حيث أرسلت لي لوحة تخبرني من خلالها أنها قبلت صداقتي وقرأت في أسفل اللوحة هذه الكلمات جميل أن نكون أصحاب رسالة ورائع أكثر أن نكون أصحاب مبادئ، بديع أن ننشرها، عظيم أن يتقبلها الله صاحبة المفتاح الضائع ومنذ قرأت تلك الكلمات أدركت حينها سر تلك المحبة، فشخص يستطيع أن يكتب مثل تلك الكلمات عظيم جداً ويستحق كل هذا الحب من الناس. أسعدت كثيراً بردها على رسالتي وذهبت في اليوم التالي لأراها ولأول مرة عن قرب رأيتها جالسة وكالعادة في مكانها المعتاد ناديتها .. صاحبة المفتاح الضائع التفتت إلي ..فرأيت ذلك الوجه الطفولي الجميل عن قرب.
حدثتني .. شكرا على كلماتك الرقيقة، لم أتجاهل رسالتك الأولى بل أردت التأكد من صدق تلك الكلمات فرأيت الجواب في رسالتك الثانية. ومنذ تلك اللحظة لم أفارقها وأصبحت من أقرب الناس إلى قلبي، ومع الأيام بدأت أكتشف معدن تلك الإنسانة. لا عجب فهي تستحق كل ذلك الحب. لم أرى قلباً صادقاً نقياً كقلبها. شفافة الروح جميلة الشكل لطيفة في التعامل .. قضيت معها أجمل اللحظات. علمتني كيف يستطيع الإنسان أن يكون كالوردة العطرة تفوح برائحتها الجميلة فتجذب كل من يقترب منها وأكثر ما تعلمته منها هي تلك العبارة التي كانت دائما ما ترددها.
إن أجمل خيوط أشعة الشمس يراها من يجاهد ليخترق طريقه بين السحاب وهذا ما كانت تعبر عنه معظم لوحاتها. أهدتني الكثير من لوحاتها الجميلة ومضت الأيام. وكم جميلة هي الحياة عندما تمضي دونما يعكر صفوها شيء لكن من المحال دوام الحال. وجاء ذلك اليوم. السماء ملبدة بالغيوم. أمطرت كثيرا. لم تكن موجودة في مكانها المعتاد. لم تحضر إلى المدرسة ثلاثة أيام. أقلقني الصوت الحزين الذي لم أعتد على سماعه في الهاتف. وفي اليوم التالي جاءتني تقول. سنرحل .. لم تقل سوى كلمة سنرحل.إلى أين لا أدري دون وداع رحلت تاركة هذه اللوحة.
رحلت وتركت للأحزان أبواباً مشرعة إلى قلبي. وتركت بقلبي جرحاً لن تداويه السنين. وبقيت وحدي أجمع الذكرى خيوطاً واهية. جاء صوت يناديني هيا إلى العشاء. لا أدري كم من الوقت وقفت أمام تلك اللوحة؟ لكن أظنه وقت طويل ذكرت نفسي فيه بجرح كان ينبض بالحنين.