استخدم المغول وباء الطاعون الأسود للفتك بأعدائهم
استخدم المغول وباء الطاعون الأسود للفتك بأعدائهم
في عام 1336م عاد التاجر المغوليّ (كاتلوك) إلى مدينته «إيسي كول» إحدى مدن إمبراطورية المغول القديمة، بعد رحلة تجارية طويلة، التقى كاتلوك زوجته التي استقبلته بعد غياب، حاملاً لها الكثير من الهدايا التي عاد بها من سفره، لكن المفاجأة أن تلك الهدايا لم تكن الشيء الوحيد الذي عاد به كاتلوك، ففي هذه الأثناء كانت تنشط داخل جسده بكتيريا قاتلة ستجتاح العالم في ما بعد، متسببة في قتل مئات الملايين من الناس بوباء الطاعون، أحد أكثر الأوبئة فتكاً بالبشرية على مدار التاريخ.
«الطاعون الدُّبليّ»، موت أكثر سواداً من جرائم المغول ..
ربما لم يرد في الكُتب ذكر مرض مميت أكثر من الطاعون، أو «الموت الأسود» كما أطلق عليه الطبيب الألماني يوستوس هيكر في كتابه «الموت الأسود في القرن الرابع عشر»، أدّى الطاعون إلى قتل ما بين 75 إلى 200 مليون إنسان، وهو أكثر من عدد ضحايا هجمات المغول كافة، والمقدر بـ 40 مليون قتيل.
يتسبب في هذا المرض بكتيريا تُسمى «يرسينيا بيستس» نسبة إلى مكتشفها الطبيب الفرنسي ألكسندر يرسين؛ وينقسم الطاعون إلى قسمين رئيسيين: الطاعون الرئوي، والطاعون الدُّبلي «الموت الأسود» وهو الأكثر انتشاراً، حتى وقت قريب كان الطاعون واحداً من ثلاثة أوبئة مميتة «بجانب الكوليرا والحمى الصفراء» الواجب إبلاغ منظمة الصحة العالمية فوراً بمجرد ظهورها، نظراً إلى سرعة انتشاره في المنطقة التي يظهر بها، وللمخاطر الكبيرة التي يُسببها لجسم الإنسان مُفضياً إلى موته في غضون عدة أيام قليلة إن لم يتلق العلاج.
لم تكن هذ الحقائق واضحة لزوجة التاجر المغوليّ كاتلوك عندما ظهرت «الدُّبل» على جسده، حاولت علاجه بالطرق الشعبية فلم يستجب، قبل ذلك كان قد عانى من الحمَّى وأعراض تشبه الإنفلونزا، ثم ساءت حالته إلى أن ظهرت تلك الدُّبل والتقرُّحات، وفي غضون عدة أيام مات كاتلوك تاركاً زوجته في حالة حزنٍ شديد، وما لبثت أن لحقت به بعد عِدّة أيام، لم يكن الحزن وحده السبب؛ بل كان هناك عدوٌ مشترك تربَّص بها، وانتقل إليها بعدما قتل زوجها، أُصيبت زوجة كاتلوك بالطاعون إثر انتقال العدوى إليها من زوجها، ماتت ولحق بها أربعة أفراد من المدينة نفسها.
في غضون عام واحد كانت هناك مائة حالة وفاة من الطاعون في «إيسي كول» الواقعة الآن في قرغيزستان، أُصيب الناس بالهلع، من هذا القاتل الخفيّ الذي يدخل إليهم في بيوتهم ويُفنيها بالكامل بعد عدة أيام قليلة، حاولوا بشتى الطرق إيقافه، لكنهم لم يستطيعوا التوصل إليه، ولا معرفة كيف يقتلهم.
بعد عِدّة قرون عرف العلماء أن الطاعون ينتقل من خلال استنشاق رذاذ الشخص المُصاب، أو لمس أنسجة الجسم المتقرحة، أو من خلال عضة القاتل الذي بحث عنه أهالي المدينة فلم يتوصلوا إليه، هذا القاتل لم يكن الفئران خلافاً لكل المعتقدات المعروفة؛ بل كان شيئاً آخر أصغر من أن يُرى بالعين المجردة، كان القاتل هو: «البراغيث».
كيف ينتقل الطاعون؟ قصة رعب مشوِّقة من الطبيعة ..
داخل معدة البرغوث الصغير ظهرت بكتيريا (يرسينيا بيستس)، كانت تتكاثر بسرعة كبيرة داخل معدته مما يؤدي إلى شعوره بالجوع، يحتاج البرغوت لما يسدُ رمقه، كان غذاؤه الرئيسي هو الدماء، بمجرد أن يشعر بالجوع يقوم بعضّ أول كائن حيّ يلقاه في طريقه، كانت الفئران السوداء هي الصديق الأوفى لهذا البرغوت، فيقوم بعضّ الفأر من أجل امتصاص دمائه في محاولةٍ حثيثة لكبح جماح الجوع الذي يشعر به.
بعد أن ينشب أسنانه داخل الفأر يتقيَّأ البرغوث كتل الطعام التي بداخل معدته في مجرى الدم الخاص بالفأر، ومن بين هذه الكتل بكتيريا (يرسينيا بيستس) التي تكاثرت داخل معدته، وتنتشر البكتيريا داخل جسد الفأر فيُصاب بالطاعون، بالتالي أصبح الفأر ضحية وليس جانياً كما اعتقد الناس سنين طويلة، أمّا البرغوث فبعد عضّه للفأر وامتصاص دمه تتغذى البكتيريا التي ظلت في معدته على الدماء الجديدة، بالتالي لا يسد الدم رمقه، يحاول عض فأر آخر وتتكرر العملية، في النهاية يموت البرغوث من الجوع، بعد أن تسبَّب بشرَّهه هذا في فناء الكثير من الفئران، والبشر أيضاً.
المتهم الرئيسي بنقل الطاعون: البرغوث ..
بمجرد دخول البكتيريا إلى جسد الإنسان، تبدأ في مهاجمة جهازه المناعيّ، ثم الغدد الليمفاوية مكونة ما يسمى بالدُّبل، تنتشر البكتيريا في دم الإنسان مكونة قروحاً وصديداً داخل الجسم في ما يُعرف بـ «الصدمة الإنتانية - Septic Shock»، يموت المُصاب في الغالب بسبب انتشار البكتيريا داخل دمائه مسببة تجلط الدم، وبالتالي فشل العديد من الأعضاء الحيوية داخل جسم الإنسان، ومن ثمّ موته.
يستطيع الفأر الواحد حمل ثمانية براغيث من تلك المسببة للطاعون، ولتخيل حجم الكارثة يكفي القول إن زوجاً واحداً من الفئران السوداء بإمكانهما إنجاب ألفيّ فأر كل عام، كانت الفئران تلك تنتشر في السفن التجارية التي تجوب العالم من الشرق حيث الصين وآسيا إلى الغرب حيث أوروبا، ولغياب عوامل النظافة والأمان ومكافحة العدوى حينها، كان من السهل للغاية أن يُصاب ركاب السفينة بالطاعون عن طريق عضة البراغيث التي تحملها الفئران المتواجدة على ظهر السفينة، وبهذه الطريقة انتشر الطاعون عبر العالم، واجتاح شرقه وغربه في فترةٍ قصيرة، لكنَّ الفئران وحدها لم تكن المسؤولة عن انتقال الطاعون ولا حتى البراغيث؛ بل كان هناك رجلٌ واحد تسبب في هذا، وكان يُدعى: (جاني بيج).
جاني بيج، شيطان على هيئة بشر وحفيد جنكيز خان «قولاً وفعلاً» ..
في عام 1374م فوجيء سكان مدينة «كافا» التجارية على البحر المتوسط بشئٍ يُلقى عليهم من خارج أسوار المدينة، لم يكن هذا الشيء كرة لهب أو سهماً ناريّاً، بل كان جثثاً متعفنة لجنود المغول الذين حاصروا أسوار المدينة، وتبدو عليها آثار القروح والدُّبل، لم يدر السكان الغرض من إلقاء هذه الجثث عليهم، وما الذي يمكن أن تفعله بهم، القائد المغولي (جاني بيج) كان على علمٍ بما يمكن أن تفعله.
بعد حصار طويل لمدينة كافا بدأ الطاعون يدبُّ في أجساد جنود المغول، كان قائدهم جاني بيج المنحدر من سلالة جنكيز خان، وهو رجلًا شديد الصرامة، قتل أخاه من أجل الوصول إلى الحكم، وسعى جاني إلى توسيع رقعة إمبراطورية المغول، وكانت «كافا» تقف في طريقه إلى أوروبا، بدأ جيشه يعاني من الطاعون ومن الجثث المتعفنة التي نتجت من وفاة جنوده بها المرض.
فكّر جاني في الكثير من الحلول لهزيمة أسوار المدينة، لكنَّه لم يستطع، خاصةً مع تساقط جنوده واحداً تلو الآخر من الطاعون، لمعت في ذهنة فكرة أن يلقي الجثث المتعفنة المصابة بالطاعون والبراغيث والقروح على المدينة من أعلى، ومن ثمّ يُصاب أهلها بالطاعون فتضعف قدرتهم على المقاومة ويسلمون المدينة، عُرفت الحروب البيولوجية منذ زمن طويل في التاريخ، لكن جاني فعل ما لم يفعله أحدٌ قبله.
سرعان ما وضع جاني بيج خطته موضع التنفيذ، استخدم جثث جنوده أسلحةً استراتيجية للوصول إلى مبتغاه، فوجيء سكان المدينة بالجثث تسقط عليهم، أصيبوا بالهلع مع منظر الجثث المرعب، بدؤوا في الهروب جماعاتٍ وأفراد، لكن الأوان قد فات؛ فقد انتقل الطاعون إليهم.
هرب السكان إلى مدينة «سيينا» الإيطالية عبر سفنهم، كانوا يطلبون النجاة لكنَّهم حملوا الموت لسكان أوروبا فيما بعد، أصيبت مدينة «سيينا» بالمرض، بدأ انتشاره أكثر فأكثر، من سيينا إلى روما إلى باريس، حتى عمّ أوروبا كلها، وقتل ٥٠% من سكانها في واحدة من أكبر الكوارث التي شهدتها القارة العجوز عبر تاريخها الطويل.
البشرية «على شفا حفرة» من الانقراض ..
في مدينة «سيينا» تطوّرت بكتيريا الطاعون فأصبحت قادرة على الانتشار من خلال التنفس، قُتِل 30 ألف شخص في ستة أشهر، حتى ذلك الوقت لم يكن الناس يدرون أن الفئران هي السبب، كانت الفئران جزءاً من حياة الناس العادية، تعيش معهم، وتتكاثر في جحورها الموجودة داخل بيوتهم، حاولوا محاربته بشتى الطرق، بالماء أو بالنار أو بدهن القروح بالعسل وسم العقارب، لكنهم لم يفلحوا، اثنان من كل ثلاثة من سكان المدينة قُتلوا، سرعان ما كان يهرب البقية منهم إلى مدن أخرى حاملين معهم «الموت الأسود».
اجتاح الطاعون الكرة الأرضية في القرن الرابع عشر، قتل 60% من سكان أوروبا تقريباً، 40% من سكَّان مصر، وعدداً هائلًا من سكان آسيا، منع المحيط الأطلنطي الطاعون من الانتشار إلى الأمريكتين، بدا وكأنه حاجز طبيعي ضد هذا الوباء، أمّا في آسيا فمن خلال طريق الحرير الذي اخترعه المغول وكانوا يجوبون به العالم للتجارة انتشر الطاعون، وصل إلى مصر والمغرب العربي، وقبلهما الصين وشرق آسيا، ثم انتقل إلى أوروبا من خلال السفن التجارية وبمساعدة جاني بيج، قرى كاملة أبيدت، أشخاص فقدوا أفراد عائلاتهم بالكامل، ظن الجميع أنها نهاية العالم.
كانت الإمبراطورية المغولية أكبر إمبراطورية يشهدها العالم في هذا الوقت، استطاعت التمدُّد في كلِّ مكان، وبلغ عدد ضحايا الحروب التي خاضتها 40 مليون إنسان؛ بينما قتل الطاعون وحده ضعف هذا الرقم على أقل تقدير، وقف الأطباء عاجزين عن حل لغز هذا المرض، كانوا يلبسون أقنعة على شكل منقار وبداخلها أعشاب ذات رائحة نفّاذة لحمايتهم من الرائحة العفنة المحيطة بالمرضى، تحوَّل هذا القناع في ما بعد إلى رمزٍ لتلك الحقبة المميتة من تاريخ البشر.
كانت الشوارع في أوروبا ممتلئة بجثث مرضى الطاعون المتعفنة، لم تكن هناك آلية علمية للتخلص من هذه الجثث، ظن الناس أن هذا الوباء انتقامٌ من الرب، وفي مدينة «أفينيون» بفرنسا حيث البابا (كليمنت السادس)، الذي كان شديد البأس والقوة –كان ذا ثروة كبيرة ويتحكَّم بالكثير من الجيوش- ذهب الناس إلى البابا لتخليصهم من هذا الوباء، لكنه لم يكن بمقدروه مساعدتهم، مات 13 ألفاً من سكان المدينة في غضون عدة أيام.
اشترى البابا حقلاً لدفن 11 ألف جثة، تبقَّت الكثير من الجثث، ضاقت السبل بالبابا في إيقاف زحف هذا الوباء القاتل، فكر في حلٍّ غريبٍ ومتطرِّف، قرر أن يرمي الجثث في نهر رون، طفت الجثث بما عليها من قروحٍ ودُبلٍ وفئران على مياه النهر، جاريةً معه حيث يسير، ليتحوَّل معه النهر إلى قاتلٍ متحرِّك يحملُ معه الموت لكل مكانٍ يمرُّ به في أوروبا.
بارقة الأمل التي أنقذت أرواح الملايين ..
مع تقدُّم الزمن تطوَّر البشر في ما يتعلق بالنظافة الشخصية والعامة، بدأ الطاعون في الانحسار شيئاً فشيئاً، لكنَّ العلم لم يتوصَّل إلى علاج نهائي له حتى اكتشاف المضادات الحيوية في ثلاثينيات القرن الماضي، يتم الآن علاج الطاعون عن طريق مركبات المضادات الحيوية مثل الستريبتوميسين والكلورامفينيكول، ويساهم الكشف المبكر في سرعة استجابة الجسم للعلاج بشكل كبير.
لا يمكن القول إن العالم قد تخلَّص من مرض الطاعون، فحتى اليوم لا تزال هناك العديد من الحالات التي يُبلَّغ عن إصابتها بالمرض، ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية فإنَّ الطاعون لا يزال متوطئاً في ثلاث دول: مدغشقر، والكونغو الديمقراطية، وبيرو، وبين عاميّ 2010 - 2015، قُتل 584 شخصاً من جراء الإصابة بالطاعون، لكنَّ هذا الرقم أقل بكثير مما حدث في القرون الوسطى، وحدث أغلبه نظراً إلى عدم تلقّيهم العلاج، بينما تظهر استجابة كبيرة للمرضى الذين يتلقون العلاج بشكل مبكر، وهو ما يُعد نصراً للبشرية التي تنجو مرة أخرى من أحد أكثر التهديدات التي ألحقت بها عبر التاريخ.